سيدي رب العالمين

نادر جبلي

سيدي رب العالمين:

لا شك أنك راقبت، بدهشة ربما، ما حصل في ذلك السوق الشعبي الفقير في دوما منذ يومين، وكيف مزقت صواريخ أطلقها سوريون، أجساد سوريين آخرين، فاختلطت دماؤهم وأشلاؤهم بالأطعمة التي كانوا يتبادلونها محاولين البقاء على قيد الحياة، بعد أن أعيتهم الحرب وأضناهم الحصار والجوع.

ولا شك أنك تعرف، وأنت العالم بكل شيء، أن الضحايا فقراء ضعفاء مساكين، لا حول لهم ولا قوة، أقعدهم فقرهم وضعفهم عن الرحيل وطلب الأمان، وتعرف أيضا أن قاتلهم هو من يُفترض أنه وليُّ أمرهم، والمؤتمن على أمنهم وحيواتهم.

ولا شك أنك ما ذلت تذكر ما حصل في مجزرة الغوطتين منذ عامين، في نفس التوقيت تقريبا، عندما استخدم نفس القتلة سلاحا كيماويا محرما لقتل مدنيين أبرياء عزل، أطفال ونساء بمعظمهم، قُتلوا خنقا بالغازات السامة أثناء نومهم.

وقبل الكيماوي وبعده، وقبل الصواريخ الفراغية وبعدها، تستمر الجريمة وتتصاعد دون انقطاع، وتنتقل المجازر من منطقة إلى أخرى ومن شكل إلى آخر، ويتفنن القاتل في فنون القتل وأساليب الموت، تمزيقا وتعذيبا وخنقا وجوعا.. والضحايا دائما بشر مساكين مغلوب على أمرهم، يُقتلون في الأسواق الشعبية وأمام أفران الخبز وفي المشافي وفي البيوت، وليس على جبهات القتال وفي ساحات المعركة. يُقتلون وفي أيديهم ما تيسر من طعام بالكاد يُسكت جوع أطفالهم، وليس أسلحة حرب وقتال.. وهم قبل ذلك عبيدُك يا إلهي، يثقون بك، ويلهجون باسمك في كل لحظة، وينفقون وقتهم في مناجاتك والتضرع إليك وتوسل رحمتك.

لم أعد قادرا على فهمك واكتناه حكمتك يا إلهي، وهل أكرمتني بهذا العقل إلا للفهم؟

يتضرع إليك ملايين السوريين المظلومين المكلومين.. في معتقلات الجلاد، وبين أنقاض البيوت، وفي رحلات الذل، وعلى قوارب الموت.. ولا مجيب، وأنت من قال “ادعوني أستجب لكم”، وأنت من قال عنك خاتم نبييك “إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا”.. فلماذا تردهم خائبين يا إلهي، وهم عبيد لك ملأ الظلم حياتهم؟

أين رحمتك، و”الرحمن الرحيم” من أسمائك الحسنى، والكتب المقدسة وأحاديث الرسل تنضح بقصص رحمتك ورأفتك بعبادك؟ أين رحمتك وأنت “الرحمن الرحيم” والبسملة “بسم الله الرحمن الرحيم” لا تفارق شفاه عبيدك؟

كيف نفهم صمتك عما يحصل لنا، ونحن بشر ككل مخلوقاتك؟ هل هو امتحان؟ ولماذا يكون الامتحان بهذه القسوة، وفوق طاقتنا على الاحتمال؟… هل هو عقاب؟ ولماذا يشمل العقاب الجميع؟ ومنهم تُقاة ورعون، ومنهم أطفال لا يميزون؟

بعضهم يقول إن ضعف إيماننا هو السبب، فهل يَعْمُرُ الإيمان قلوب الآخرين في أوروبا وأمريكا وإسرائيل مثلا؟ وهل يُجلَبُ الإيمان بتدمير الأوطان وقهر الإنسان؟.. ويقول آخرون إن القصة في ضعف حبنا لبعضنا البعض، فهل سنصبح بعد المأساة أكثر حبا وانسجاما؟ وهل يجلب سفك الدماء وإذلال الناس حبا؟ أم أنه يدمر بذور الحب من أساسها، ويجعل بذور الحقد والكراهية مكانها؟

كيف ستُواجِهُ تلك الأم التي كان صراخها يشق عباب السماء ويخترق طبقات الأرض ألما وحزنا على طفلها الذي مزقته صواريخ نظام القتلة؟ ألم تسمع صراخها؟ وأنت من “يسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء”؟؟

كيف ستنظر في عيني ذلك الرجل الذي كان يحمل بقايا طفلته الرضيعة بين يديه، ودموعه تغسل وجهها البريء، في مشهد يُبكي حتى الحجر؟ ألم تتأثر؟

سيدي رب العالمين…

إن كنتَ قد أردتَ محاسبتنا، فنتضرع إليك، أن ترأف بحالنا، فذنوب البشرية مجتمعة لا تستحق كل هذا الحساب وكل هذا الألم. وإن كنتَ “تمد للظالمين مدا”، فنتوسل إليك أن توقف هذا المد، فقد أوغلوا في دمائنا وأحرقوا ديارنا ودمروا مستقبلنا وصادروا أحلامنا…

ما يشغلك عنا يا إلهي؟ ولماذا نكون خارج اهتمامك مع أن مصابنا عظيم جلل، لا يشبهه مصاب آخر على سطح هذا الكوكب؟

نحتاجك يا إلهي الآن، وليس في وقت آخر.

هذا هو وقتك كي تتدخل، ردعاً للظالم، ونُصرةً للمظلوم.

تدخَّل قبل أن يضمحل الشعب السوري ويتوزع من بقي منه حيا على أربع رياح الأرض، وقبل أن يتمزق الوطن السوري وتتقاسمه وحوش الأرض.

ليس كفرا يا إلهي، إنما هو ألم يَعتصر القلب، وهمُّ يُميت النفس، وخوف يَحجب العقل.

ليس كفرا يا إلهي، إنما هي صرخةُ شعب موجوع تكالبت عليه كل وحوش الأرض.

افعل شيئا يا إلهي قبل أن يقنط السوريون من رحمتك، ويشكُّون في عدلك، ويتساءلون عن حكمتك.

افعل شيئا قبل أن تطرق ثورتهم أبواب عرشك.

————–

نادر جبلي

في 18 آب 2015 … بعد يومين من مجزرة سوق الخضار في دوما.

(عرض المقال على عدة مواقع ولم يجرؤ أحد على نشره)

Next Post

في درنة الليبية: انتفت الأخلاق ولم يعد للإنسانية معنى في المعاجم - نورجان سرغاية

السبت سبتمبر 23 , 2023


أبرز المواد

أحدث المنشورات