البيمارستان السوري: حيث يُستنسخ الجنون باسم العقل، ويُغتال العدل باسم العدالة
السوريون الذين انتفضوا طلبًا للحرية والكرامة، ودفعوا أثمانًا باهظة من أجل مستقبل يليق بهم، يجدون أنفسهم اليوم أمام مشهد يثير القلق أكثر مما يبعث على الطمأنينة. وكأنّ البلاد حُكم عليها أن تكون ساحة عبثٍ لا نهاية له، بيمارستانًا سياسيًا تتوالى فيه النكبات باسم “العدل والشورى”، لتُغتال الديمقراطية وتُقصى القوى الوطنية، فلا يُسمع إلا صوت الحاكم وجوقته! الديمقراطية ليست مجرد استشارة شكلية لمن تُنتقى آراؤهم بعناية ليوافقوا هوى السلطة، إنها نظام متكامل يقوم على مشاركة الشعب الفعلية في اتخاذ القرارات، إن الحديث عن العدل والشورى كبديل للديمقراطية ليس إلا محاولة للالتفاف على جوهرها الحقيقي. العدالة هي المساواة أمام القانون، وضمان حقوق جميع المواطنين دون تمييز، أما الشورى، فلا تكون بانتقاء المقربين والمصفقين، بل بحوار مفتوح يشارك فيه الجميع، دون خوف أو تهميش، ودون أن يتحول إلى ديكور يزين قرارات معدة مسبقًا.
في البيمارستان السوري، يُحكم الشعب بلا دستور، وتُدار البلاد بلا رؤية، وتُمنح الشَرعية للسلطة بناء على مشاورات بينية وتبريكات عابرة للحدود، وكأن السوريين قطعان تنتظر أوامر الراعي الجديد!
تُشكل اللجان، تُصادر النقابات، يُفرض اللون الواحد، ويُستأثر بالقرار ليُعاد إنتاج العبودية بألف قناع! يُستبعد الضباط المنشقين الذين كانوا من أوائل من انحازوا للشعب، في الوقت الذي يتم فيه تسليم بعض الضباط الأجانب مقاليد قيادية تُمنح وفق معايير الولاء، لا وفق الكفاءة والمصلحة الوطنية.
في هذا البيمارستان، العدالة التي كان يجب أن تكون انتقالية، تتجه لتصبح انتقامية، وكأن الماضي لا يمكن تجاوزه إلا بالقتل الجائر، وهو ما ثرنا من أجله طلبًا لمحاكمات عادلة لا انتقام أعمى، وفي خضم تصفية الحسابات، تُدار البلاد وكأنها غنيمة يتقاسمها المنتصرون وفق شعار (من يحرر يقرر)، فيما لا يبقى للشعب سوى الفتات! يتسابق الانتهازيون لنهب السلطة، ليقبع السوري في العتمة، بلا ماء، بلا كهرباء، بلا دواء، بلا كرامة، وكأن معاناته قدرٌ أبدي لا فكاك منه.
الشعب السوري الذي أسقط الطغاة لن يُلدغ من ذات الجحر مرتين. وفي سبيل تحقيق دولة المواطنة، والسيادة الشعبية نُطالب متصدري المشهد بالإجابة على الأسئلة الكبرى:
إلى أين نحن ذاهبون؟ ما معالم المرحلة الانتقالية؟
أين الإعلان الدستوري الذي يفترض أن ينظم هذه المرحلة؟
كيف تتحدثون عن الحرية، وتفرضون الوصاية على إرادة الناس؟
كيف ترفعون شعار العدالة، وتمارسون الإقصاء؟
كيف تتحدثون عن الشورى، وتمنحون القرار لقلة تتحكم في مصير الجميع؟
إلى متى ستبقى الديمقراطية مغيبة، والسلطة محتكرة، والمصير مجهولًا؟
السوريون يستحقون إجابات واضحة، وخارطة طريق شفافة، وواقعًا يليق بتضحياتهم. أما المراوغة وإدارة الوقت والضبابية، فلن تزيد الأمور إلا تعقيدًا، ولن تؤدي إلا إلى خيبة أمل جديدة في وطن لم يعد يحتمل المزيد من الخيبات.
هذا ولي عودة…